الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
فيها: سار محمد بن أبي العباس السفاح عن أمر عمه المنصور إلى بلاد الديلم ومعه الجيوش من الكوفة والبصرة، وواسط والموصل والجزيرة. وفيها: قدم محمد بن أبي جعفر المنصور المهدي على أبيه من بلاد خراسان، ودخل بابنة عمه رايطة بنت السفاح بالحيرة. وفيها: حج بالناس أبو جعفر المنصور، واستخلف على الحيرة والعسكر خازم بن خزيمة، وولى رباح بن عثمان المزني المدينة، وعزل عنها محمد بن خالد القسري، وتلقى الناس أبا جعفر المنصور إلى أثناء طريق مكة في حجه في سنة أربع وأربعين ومائة. وكان في جملة من تلقاه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فأجلسه المنصور معه على السماط، ثم جعل يحادثه بإقبال زائد بحيث إن المنصور اشتغل بذلك عن عامة غدائه، وسأله عن ابنيه إبراهيم ومحمد: لم لا جاءاني مع الناس ؟ فحلف عبد الله بن حسن أنه لا يدري أين صارا من أرض الله. وصدق في ذلك، وما ذاك إلا أن محمد بن عبد الله بن حسن كان قد بايعه جماعة من أهل الحجاز في أواخر دولة مروان الحمار بالخلافة وخلع مروان، وكان في جملة من بايعه، على ذلك أبو جعفر المنصور، وذلك قبل تحويل الدولة إلى بني العباس، فلما صارت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور خاف محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم منه خوفاً شديداً. (ج/ص: 10/87) وذلك لأن المنصور توهم منهما أنهما لا بد أن يخرجا عليه كما أراد أن يخرجا على مروان، والذي توهم منه المنصور وقع فيه، فذهبا هرباً في البلاد الشاسعة فصارا إلى اليمن، ثم سارا إلى الهند فاختفيا بها فدل على مكانهما الحسن بن زيد فهربا إلى موضع آخر، فاستدل عليه الحسن بن زيد ودل عليهما، ثم كذلك. وانتصب إلباً عليهما عند المنصور. والعجب منه أنه من أتباعهما. واجتهد المنصور بكل طريق على تحصيلهما فلم يتفق له ذلك، وإلى الآن. فلما سأل أباهما عنهما حلف أنه لا يدري أين صارا من أرض الله، ثم ألح المنصور على عبد الله في طلب ولديه فغضب عبد الله من ذلك وقال: والله لو كانا تحت قدمي ما دللتك عليهما. فغضب المنصور وأمر بسجنه وأمر ببيع رقيقه وأمواله، فلبث في السجن ثلاث سنين، وأشاروا على المنصور بحبس بني حسن عن آخرهم فحبسهم، وجدّ في طلب إبراهيم ومحمد جداً، هذا وهما يحضران الحج في غالب السنين، ويكمنان في المدينة في غالب الأوقات، ولا يشعر بهما من ينم عليهما، ولله الحمد. والمنصور يعزل نائباً عن المدينة ويولي عليها غيره، ويحرضه على إمساكهما والفحص عنهما، وبذل الأموال في طلبهما، وتعجزه المقادير عنهما لما يريده الله عز وجل. وقد واطأهما على أمرهما أمير من أمراء المنصور يقال له: أبو العساكر خالد بن حسان، فعزموا في بعض الحجات على الفتك بالمنصور بين الصفا والمروة، فنهاهم عبد الله بن حسن لشرف البقعة. وقد اطلع المنصور على ذلك وعلم بما مالأهما ذلك الأمير، فعذبه حتى أقر بما كانوا تمالؤا عليه من الفتك به. فقال: وما الذي صرفكم عن ذلك ؟ فقال: عبد الله بن حسن نهانا عن ذلك، فأمر به الخليفة فغيب في الأرض، فلم يظهر حتى الآن. وقد استشار المنصور من يعلم من أمرائه ووزرائه من ذوي الرأي في أمر ابني عبد الله بن حسن، وبعث الجواسيس والقصاد في البلاد فلم يقع لهما على خبر، ولا ظهر لهما على عين ولا أثر، والله غالب على أمره. وقد جاء محمد بن عبد الله بن حسن إلى أمه فقال: يا أمه ! إني قد شفقت على أبي وعمومتي، ولقد هممت أن أضع يدي في يد هؤلاء لأريح أهلي. فذهبت أمه إلى السجن فعرضت عليهم ما قال ابنها، فقالوا: لا ولا كرامة، بل نصبر على أمره فلعل الله يفتح على يديه خيراً، ونحن نصبر وفرجنا بيد الله إن شاء فرج عنا، وإن شاء ضيق. وتمالؤا كلهم على ذلك، رحمهم الله. وفيها: نقل آل حسن من حبس المدينة إلى حبس بالعراق وفي أرجلهم القيود، وفي أعناقهم الأغلال. وكان ابتداء تقييدهم من الربذة بأمر أبي جعفر المنصور، وقد أشخص معهم محمد بن عبد الله العثماني، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد حملت قريباً، فاستحضره الخليفة وقال: قد حلفت بالعتاق والطلاق إنك لم تغشني، وهذه ابنتك حامل، فإن كان من زوجها فقد حبلت منه وأنت تعلم به، وإن كان من غيره فأنت ديوث. (ج/ص: 10/88) فأجابه العثماني بجواب أحفظه به، فأمر به فجردت عنه ثيابه فإذا جسمه مثل الفضة النقية، ثم ضربه بين يديه مائة وخمسين سوطاً، منها ثلاثون فوق رأسه، أصاب أحدها عينه فسالت، ثم رده إلى السجن وقد بقي كأنه عبد أسود من زرقة الضرب، وتراكم الدماء فوق جلده، فأجلس إلى جانب أخيه لأمه عبد الله بن حسن، فاستسقى ماءً فما جسر أحد أن يسقيه حتى سقاه خراساني من جملة الجلاوزة الموكلين بهم. ثم ركب المنصور هودجه وأركبوا أولئك في محامل ضيقة، وعليهم القيود والأغلال، فاجتاز بهم المنصور وهو في هودجه، فناداه عبد الله بن حسن: والله يا أبا جعفر ! ما هكذا صنعنا بأسرائكم يوم بدر، فأخسأ ذلك المنصور وثقل عليه ونفر عنهم. ولما انتهوا إلى العراق حبسوا بالهاشمية، وكان فيهم محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وكان جميلاً فتياً، فكان الناس يذهبون لينظروا إلي حسنه وجماله. وكان يقال له: الديباج الأصغر، فأحضره المنصور بين يديه وقال له: أما لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحداً. ثم ألقاه بين اسطوانتين وسد عليه حتى مات. فعلى المنصور ما يسحقه من عذاب الله ولعنته. وقد هلك كثير منهم في السجن حتى فرج عنهم بعد هلاك المنصور على ما سنذكره. فكان فيمن هلك في السجن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وقد قيل: والأظهر أنه قتل صبراً، وأخوه إبراهيم بن الحسن وغيرهما، وقل من خرج منهم من الحبس، وقد جعلهم المنصور في سجن لا يسمعون فيه أذاناً، ولا يعرفون فيه وقت صلاة إلا بالتلاوة، ثم بعث أهل خراسان يشفعون في محمد بن عبد الله العثماني، فأمر به فضربت عنقه وأرسل برأسه إلى أهل خراسان، لا جزاه الله خيراً، ورحم الله: محمد بن عبد الله العثماني وهو: محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي رحمه الله، أبو عبد الله المدني المعروف: بالديباج، لحسن وجهه، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي. روى الحديث عن: أبيه، وأمه، وخارجة بن زيد، وطاوس، وأبي الزناد، والزهري، ونافع، وغيرهم. وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته رقية زوجة ابن أخيه إبراهيم بن عبد الله، وكانت من أحسن النساء، وبسببها قتله أبو جعفر المنصور في هذه السنة. وكان كريماً جواداً ممدحاً. قال الزبير بن بكار: أنشدني سليمان بن عباس السعدي لأبي وجزة السعدي يمدحه: وجدنا المحض الأبيض من قريش * فتى بين الخليفة والرسول أتاك المجد من هنا وهناك * وكنت له بمعتلج السيول فما للمجد دونك من مبيت * وما للمجد دونك من مقيل ولا يمض وراءك يبتغيه * ولا هو قابل بك من بديل (ج/ص: 10/89) فمما كان فيها من الأحداث: مخرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة، على ما سنبينه إن شاء الله. أما محمد فإنه خرج على أثر ذهاب أبي جعفر المنصور بأهله بني حسن من المدينة إلى العراق على الصفة والنعت الذي تقدم ذكره، وسجنهم في مكان ساء مستقراً ومقاماً، لا يسمعون فيه آذاناً ولا يعرفون فيه دخول أوقات صلوات إلا بالأذكار والتلاوة. وقد مات أكثر أكابرهم هنالك رحمهم الله. هذا كله ومحمد الذي يطلبه مختف بالمدينة، حتى أنه في بعض الأحيان اختفى في بئر نزل في مائه كله إلا رأسه، وباقيه مغمور بالماء، وقد تواعد هو وأخوه وقتاً معيناً يظهران فيه، هو بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، ولم يزل الناس - أهل المدينة وغيرهم - يؤنبون محمد بن عبد الله في اختفائه وعدم ظهوره حتى عزم على الخروج، وذلك لما أضرَّ به شدة الاختفاء وكثرة إلحاح رياح نائب المدينة في طلبه ليلاً ونهاراً، فلما اشتد به الأمر وضاق الحال واعد أصحابه على الظهور في الليلة الفلانية، فلما كانت تلك الليلة جاء بعض الوشاة إلى متولي المدينة فأعلمه بذلك، فضاق ذرعاً وانزعج لذلك انزعاجاً شديداً، وركب في جحافله فطاف المدينة وحول دار مروان، وهم مجتمعون بها، فلم يشعر بهم. فلما رجع إلى منزله بعث إلى بني حسين بن علي فجمعهم ومعهم رؤوس من سادات قريش وغيرهم، فوعظهم وأنبهم وقال: يا معشر أهل المدينة، أمير المؤمنين يتطلب هذا الرجل في المشارق والمغارب وهو بين أظهركم، ثم ما كفاكم حتى بايعتموه على السمع والطاعة؟ والله لا يبلغني عن أحد منكم خرج معه إلا ضربت عنقه. فأنكر الذين هم هنالك حاضرون أن يكون عندهم علم أو شعور بشيء من هذا، وقالوا: نحن نأتيك برجال مسلحين يقاتلون دونك إن وقع شيء من ذلك. فنهضوا فجاؤوه بجماعة مسلحين فاستأذنوه في دخولهم عليه، فقال: لا إذن لهم، إني أخشى أن يكون ذلك خديعة. فجلس أولئك على الباب ومكث الناس جلوساً حول الأمير وهو واجم لا يتكلم إلا قليلاً حتى ذهبت طائفة من الليل، ثم ما فجيء الناس إلا وأصحاب محمد بن عبد الله قد ظهروا وأعلنوا بالتكبير، فانزعج الناس في جوف الليل، وأشار بعض الناس على الأمير أن يضرب أعناق بني حسين، فقال أحدهم: علام ونحن مقرون بالطاعة ؟ واشتغل الأمير عنهم بما فجأه من الأمر، فاغتنموا الغفلة ونهضوا سراعاً فتسوروا جدار الدار وألقوا أنفسهم على كناسة هنالك. وأقبل محمد بن عبد الله بن حسن في مائتين وخمسين، فمر بالسجن فأخرج من فيه، وجاء دار الإمارة فحاصرها فافتتحها ومسك الأمير رياح بن عثمان نائب المدينة فسجنه في دار مروان، وسجن معه ابن مسلم بن عقبة، وهو الذي أشار بقتل بني حسين في أول هذه الليلة فنجوا وأحيط به، وأصبح محمد بن عبد الله بن حسن وقد استظهر على المدينة ودان له أهلها، فصلى بالناس الصبح وقرأ فيها سورة إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً. (ج/ص: 10/90) وأسفرت هذه الليلة عن مستهل رجب من هذه السنة. وقد خطب محمد بن عبد الله أهل المدينة في هذا اليوم، فتكلم في بني العباس وذكر عنهم أشياء ذمهم بها، وأخبرهم أنه لم ينزل بلداً من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة، فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل. وقد روى ابن جرير عن الإمام مالك: أنه أفتى الناس بمبايعته. فقيل له: فإن في أعناقنا بيعة للمنصور. فقال: إنما كنتم مكرهين وليس لمكره بيعة. فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك، ولزم مالك بيته. وقد قال له إسماعيل بن عبد الله بن جعفر حين دعاه إلى بيعته: يا ابن أخي إنك مقتول. فارتدع بعض الناس عنه واستمر جمهورهم معه، فاستناب عليهم عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي، وعلى شرطتها عثمان بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن مسور بن مخرمة، وتلقب: بالمهدي، طمعاً في أن يكون المذكور بالأحاديث فلم يكن به، ولا تم له ما رجاه ولا تمناه، فإنا لله. وقد ارتحل بعض أهل المدينة عنها ليلة دخلها، فطوى المراحل البعيدة إلى المنصور في سبع ليال، فورد عليه فوجده نائماً في الليل، فقال للربيع الحاجب: استأذن على الخليفة. فقال: إنه لا يوقظ في هذه الساعة. فقال: إنه لا بد من ذلك فأخبر الخليفة. فخرج. فقال: ويحك ! ما وراءك ؟ فقال: إنه خرج ابن حسن بالمدينة. فلم يظهر المنصور لذلك اكتراثاً وانزعاجاً، بل قال: أنت رأيته ؟ قال: نعم ! فقال: هلك والله وأهلك معه من اتبعه، ثم أمر بالرجل فسجن، ثم جاءت الأخبار بذلك فتواترت. فأطلقه المنصور وأطلق له عن كل ليلة ألف درهم فأعطاه سبعة آلاف درهم. ولما تحقق المنصور الأمر من خروجه ضاق ذرعاً، فقال له بعض المنجمين: يا أمير المؤمنين ! لا عليك منه فوالله لو ملك الأرض بحذافيرها فإنه لا يقيم أكثر من سبعين يوماً. ثم أمر المنصور جميع رؤوس الأمراء أن يذهبوا إلى السجن فيجتمعوا بعبد الله بن حسن - والد محمد - فيخبروه بما وقع من خروج ولده ويسمعوا ما يقول لهم. فلما دخلوا عليه أخبروه بذلك فقال: ما ترون ابن سلامة فاعلاً ؟ - يعني المنصور -، فقالوا: لا ندري. فقال: والله لقد قتل صاحبكم البخل ينبغي له أن ينفق الأموال ويستخدم الرجال، فإن ظهر فاسترجاع ما أنفق سهل، وإلا لم يكن لصاحبكم شيء في الخزائن وكان ما خزن لغيره. (ج/ص: 10/91) فرجعوا إلى الخليفة فأخبروه بذلك، وأشار الناس على الخليفة بمناجزته، فاستدعى عيسى بن موسى فندبه إلى ذلك، ثم قال: إني سأكتب إليه كتاباً أنذره به قبل قتاله. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم ! من عبد الله بن عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: ثم قال: فلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، إن أنت رجعت إلى الطاعة لأؤمننك ومن اتبعك، ولأعطينك ألف ألف درهم، ولأدعنك تقيم في أحب البلاد إليك، ولأقضين لك جميع حوائجك، في كلام طويل. فكتب إليه محمد جواب كتابه: من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله بن حسن: بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال: وإني أعرض عليك من الأمان ما عرضت عليّ، فأنا أحق بهذا الأمر منكم، وأنتم إنما وصلتم إليه بنا، فإن علياً كان الوصيّ وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ؟ ونحن أشرف أهل الأرض نسباً، فرسول الله خير الناس وهو جدنا، وجدتنا خديجة وهي أفضل زوجاته، وفاطمة ابنته أمنا وهي أكرم بناته، وإن هاشماً ولد علياً مرتين، وإن حسناً ولده عبد المطلب مرتين، وهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد أبي مرتين، وإني أوسط بني هاشم نسباً، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأخفهم عذاباً في النار. فأنا أولى بالأمر منك، وأولى بالعهد وأوفى به منك، فإنك تعطي العهد ثم تنكث ولا تفي، كما فعلت بابن هبيرة فإنك أعطيته العهد ثم غدرت به، ولا أشد عذاباً من إمام غادر، وكذلك فعلت بعمك عبد الله بن علي، وأبي مسلم الخراساني. ولو أعلم أنك تصدق لأجبتك لما دعوتني إليه، ولكن الوفاء بالعهد من مثلك لمثلي بعيد والسلام. فكتب إليه أبو جعفر جواب ذلك في كتاب طويل حاصله: أما بعد فقد قرأت كتابك فإذا جلَّ فخرك وإدلالك قرابة النساء لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبية والأولياء، وقد أنزل الله: وكان له حينئذ أربعة أعمام، فاستجاب له اثنان أحدهما جدنا، وكفر اثنان أحدهما أبوك - يعني: جده أبا طالب - فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينهما إلّاً ولا ذمة، وقد أنزل الله في عدم إسلام أبي طالب: وقد فخرت به وأنه أخف أهل النار عذاباً، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمن أن يفخر بأهل النار، وفخرت بأن علياً ولده هاشم مرتين. وأن حسناً ولده عبد المطلب مرتين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولده عبد الله مرة واحدة، وقولك إنك لم تلد أمهات أولاد، فهذا إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية، وهو خير منك، وعلي بن الحسن من أم ولد وهو خير منك، وكذلك ابنه محمد بن علي، وابنه جعفر بن محمد جداتهما أمهات أولاد وهما خير منك، وأما قولك بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى: وقد جاءت السنة التي لا خلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورثون، ولم يكن لفاطمة ميراث من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص الحديث. وقد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوك حاضر فلم يأمره بالصلاة بالناس، بل أمر غيره. ولما توفي لم يعدل الناس بأبي بكر وعمر أحداً، ثم قدموا عليه عثمان في الشورى والخلافة، ثم لما قتل عثمان اتهمه بعضهم به، وقاتله طلحة والزبير على ذلك، وامتنع سعد من مبايعته ثم بعد ذلك معاوية، ثم طلبها أبوك وقاتل عليها الرجال، ثم اتفق على التحكيم فلم يفِ به، ثم صارت إلى الحسن فباعها بخرق ودراهم، وأقام بالحجاز يأخذ مالاً من غير حله، وسلم الأمر إلى غير أهله، وترك شيعته في أيدي بني أمية ومعاوية. فإن كانت لكم فقد تركتموها وبعتموها بثمنها. ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة وكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وحرقوكم بالنار، وحملوا نساءكم على الإبل كالسبايا إلى الشام، حتى خرجنا عليهم نحن، فأخذنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم، وذكرنا فضل سلفكم، فجعلت ذلك حجة علينا، وظننت أنا إنما ذكرنا فضله على أمثاله على حمزة والعباس وجعفر، وليس الأمر كما زعمت، فإن هؤلاء مضوا ولم يدخلوا في الفتن، وسلموا من الدنيا فلم تنقصهم شيئاً، فاستوفوا ثوابهم كاملاً، وابتلى بذلك أبوك. وكانت بنوا أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلوات المكتوبات، فأحيينا ذكره وذكرنا فضله وعنفناهم بما نالوا منه، وقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية بسقاية الحجيج الأعظم، وخدمة زمزم، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بها. ولما قحط الناس زمن عمر استسقى بأبينا العباس، وتوسل به إلى ربه وأبوك حاضر، وقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا العباس، فالسقاية سقايته، والوراثة وراثته، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف في الجاهلية والإسلام إلا والعباس وارثه ومورثه، في كلام طويل فيه بحث ومناظرة وفصاحة. وقد استقصاه ابن جرير بطوله، والله سبحانه أعلم. (ج/ص: 10/93) بعث محمد بن عبد الله بن حسن في غبون ذلك رسولاً إلى أهل الشام يدعوهم إلى بيعته وخلافته فأبوا قبول ذلك منه، وقالوا: قد ضجرنا من الحروب ومللنا من القتال. وجعل يستميل رؤوس أهل المدينة، فمنهم من أجابه ومنهم من امتنع عليه، وقال له بعضهم: كيف أبايعك وقد ظهرت في بلد ليس فيه مال تستعين به على استخدام الرجال ؟ ولزم بعضهم منزله فلم يخرج حتى قتل محمد. و بعث محمد هذا الحسين بن معاوية في سبعين رجلاً ونحواً من عشرة فوارس إلى مكة نائباً إن هو دخلها فساروا إليها، فلما بلغ أهلها قدومهم خرجوا إليهم في ألوف من المقاتلة، فقال لهم الحسين بن معاوية: علام تقاتلون وقد مات أبو جعفر ؟ فقال السري بن عبد الله زعيم أهل مكة: إن برده جاءتنا من أربع ليال وقد أرسلت إليه كتاباً فأنا أنتظر جوابه إلى أربع، فإن كان ما تقولون حقاً سلمتكم البلد وعلي مؤنة رجالكم وخيلكم. فامتنع الحسن بن معاوية من الانتظار وأبى إلا المناجزة، وحلف لا يبيت الليلة إلا بمكة، إلا أن يموت. وأرسل إلى السري: أن أبرز من الحرم إلى الحل حتى لا تراق الدماء في الحرم. فلم يخرج، فتقدموا إليهم فصافّوهم فحمل عليه الحسن وأصحابه حملة واحدة فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعة، ودخلوا مكة. فلما أصبحوا خطب الحسن بن معاوية الناس وأغراهم بأبي جعفر، ودعاهم إلى محمد بن عبد الله بن حسن المهدي. خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن وظهر بالبصرة أيضاً إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وجاء البريد إلى أخيه محمد فانتهى إليه ليلا ً فاستؤذن له عليه وهو بدار مروان فطرق بابها. فقال: اللهم إني أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن. ثم خرج فأخبر أصحابه عن أخيه فاستبشروا جداً وفرحوا كثيراً، وكان يقول للناس بعد صلاة الصبح والمغرب: ادعوا الله لإخوانكم أهل البصرة، وللحسن بن معاوية بمكة، واستنصروه على أعدائكم. وأما ما كان من المنصور فإنه جهز الجيوش إلى محمد بن عبد الله بن حسن، صحبة عيسى بن موسى عشرة آلاف فارس من الشجعان المنتخبين، منهم: محمد بن أبي العباس السفاح، وجعفر بن حنظلة البهراني، وحميد بن قحطبة، وكان المنصور قد استشاره فيه فقال: يا أمير المؤمنين ! ادع بمن شئت ممن تثق به من مواليك فابعث بهم إلى وادي القرى يمنعونهم من ميرة الشام، فيموت هو ومن معه جوعاً، فإنه ببلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح. (ج/ص: 10/94) وقدم بين يديه كثير بن الحصين العبدي وقد قال المنصور لعيسى بن موسى حين ودعه: يا عيسى ! إني أبعثك إلى جنبي هذين فإن ظفرت بالرجل فشمَّ سيفك، وناد في الناس بالأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم أعلم بمذاهبه. وكتب معه كتباً إلى رؤساء قريش والأنصار من أهل المدينة يدفعها إليهم خفية يدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة. فلما اقترب عيسى بن موسى من المدينة بعث الكتب مع رجل فأخذه حرس محمد بن عبد الله بن حسن، فوجدوا معه تلك الكتب فدفعوها إلى محمد فاستحضر جماعة من أولئك فعاقبهم وضربهم ضرباً شديداً، وقيدهم قيوداً ثقالاً، وأودعهم السجن. ثم إن محمداً استشار أصحابه بالقيام بالمدينة حتى يأتي عيسى بن موسى فيحاصرهم بها، أو أنه يخرج بمن معه فيقاتل أهل العراق ؟ فمنهم من أشار بهذا، ومنهم من أشار بذاك، ثم اتفق الرأي على المقام بالمدينة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندم يوم أحد على الخروج منها، ثم اتفقوا على حفر خندق حول المدينة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، فأجاب إلى ذلك كله، وحفر مع الناس في الخندق بيده اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر لهم لبنة من الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرحوا بذلك وكبروا وبشروه بالنصر. وكان محمد حاضراً عليه قباء أبيض وفي وسطه منطقة، وكان شكلاً ضخماً أسمر عظيم الهامة. ولما نزل عيسى بن موسى الأعوص، واقترب من المدينة صعد محمد بن عبد الله المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد - وكانوا قريباً من مائة ألف - فقال لهم جملة ما قال: إني جعلتكم في حل من بيعتي، فمن أحب منكم أن يقيم عليها فعل، ومن أحب أن يتركها فعل. فتسلل كثير منهم أو أكثرهم عنه، ولم يبق إلا شرذمة قليلة معه، وخرج أكثر أهل المدينة بأهليهم منها لئلا يشهدوا القتال بها، فنزلوا الأعراض ورؤوس الجبال. وقد بعث محمد أبا الليث ليردهم عن الخروج فلم يمكنه ذلك في أكثرهم، واستمروا ذاهبين. وقال محمد لرجل: أتأخذ سيفاً ورمحاً وترد هؤلاء الذين خرجوا من المدينة ؟ فقال: نعم ! إن أعطيتني رمحاً أطعنهم وهم بالأعراض، وسيفاً أضربهم وهم في رؤوس الجبال فعلت. فسكت محمد ثم قال لي: ويحك ! إن أهل الشام والعراق وخراسان قد بيضوا - يعني: لبسوا البياض - موافقة لي وخلعوا السواد. فقال: وماذا ينفعني أن لو بقيت الدنيا زبدة بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة؟ وهذا عيسى بن موسى نازل بالأعوص. ثم جاء عيسى بن موسى فنزل قريباً من المدينة، على ميل منها، فقال له دليله ابن الأصم: إني أخشى إذا كشفتموهم أن يرجعوا إلى معسكرهم سريعاً قبل أن تدركهم الخيل. ثم ارتحل به فأنزله الجرف على سقاية سليمان بن عبد الملك على أربعة أميال من المدينة، وذلك يوم السبت لصبح اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان من هذه السنة. وقال: إن الراجل إذا هرب لا يقدر على الهرولة أكثر من ميلين أو ثلاثة فتدركه الخيل. وأرسل عيسى بن موسى خمسمائة فارس فنزلوا عند الشجرة في طريق مكة، وقال لهم: هذا الرجل إن هرب فليس له ملجأ إلا مكة، فحولوا بينه وبينها. (ج/ص: 10/95) ثم أرسل عيسى إلى محمد يدعوه إلى السمع والطاعة لأمير المؤمنين المنصور، وأنه قد أعطاه الأمان له ولأهل بيته إن هو أجابه، فقال محمد للرسول: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك. ثم بعث إلى عيسى بن موسى يقول له: إني أدعوك إلى كتاب الله وسنة رسوله، فاحذر أن تمتنع فأقتلك، فتكون شر قتيل، أو تقتلني فتكون قتلت من دعاك إلى الله ورسوله. ثم جعلت الرسل تتردد بينهما ثلاثة أيام، هذا يدعو هذا، وهذا يدعو هذا، وجعل عيسى بن موسى يقف في كل يوم من هذه الأيام الثلاثة على الثنية عند سلع فينادي: يا أهل المدينة ! إن دماءكم علينا حرام فمن جاءنا فوقف تحت رايتنا فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، فليس لنا في قتالكم إرب، وإنما نريد محمداً وحده لنذهب به إلى الخليفة. فجعلوا يسبونه وينالون من أمه، ويكلمونه بكلام شنيع، ويخاطبونه مخاطبة فظيعة، وقالوا له: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا ونحن معه، نقاتل دونه. فلما كان اليوم الثالث أتاهم في خيل ورجال وسلاح ورماح لم ير مثلها، فناداه: يا محمد ! إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتلك حتى أدعوك إلى الطاعة، فإن فعلت أمنك وقضى دينك وأعطاك أموالاً وأراضي، وإن أبيت قاتلتك فقد دعوتك غير مرة. فناداه محمد: إنه ليس لكم عندي إلا القتال. فنشبت الحرب حينئذ بينهم، وكان جيش عيسى بن موسى فوق أربعة آلاف، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بن السفاح، وعلى ميسرته داود بن كرار، وعلى الساقة الهيثم بن شعبة، ومعهم عدد لم ير مثلها. وفرق عيسى أصحابه في كل قطر طائفة. وكان محمد وأصحابه على عدة أصحاب أهل بدر، واقتتل الفريقان قتالاً شديداً جداً، وترجل محمد إلى الأرض فيقال: إنه قتل بيده من جيش عيسى بن موسى سبعين رجلاً من أبطالهم، وأحاط بهم أهل العراق فقتلوا طائفة من أصحاب محمد بن عبد الله بن حسن، فاقتحموا عليهم الخندق الذي كانوا قد حفروه وعملوا أبواباً على قدره. وقيل: إنهم ردموه بحدائج الجمال حتى أمكنهم أن يجوزوه، وقد يكونون فعلوا هذا موضع منه، وهذا في موضع آخر، والله أعلم. ولم تزل الحرب ناشبة بينهم حتى صليت العصر، فلما صلى العصر نزلوا إلى مسيل الوادي بسلع فكسر جفن سيفه وعقر فرسه وفعل أصحابه مثله وصبروا أنفسهم للقتال، وحميت الحرب حينئذ جداً، فاستظهر أهل العراق ورفعوا راية سوداء فوق سلع، ثم دنوا إلى المدينة فدخلوها ونصبوا راية سوداء فوق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا: أخذت المدينة، وهربوا وبقي محمد في شرذمة قليلة جداً، ثم بقي وحده وليس معه أحد، وفي يده سيف صلت يضرب به من تقدم إليه، فكان لا يقوم له شيء إلا أنامه، حتى قتل خلقاً أهل العراق من الشجعان، ويقال: إنه كان في يده يومئذ ذو الفقار ثم تكاثر عليه الناس فتقدم إليه رجل فضربه بسيفه تحت شحمة أذنه اليمنى فسقط لركبته وجعل يحمي نفسه ويقول: ويحكم ! ابن نبيكم مجروح مظلوم. (ج/ص: 10/96) وجعل حميد بن قحطبة يقول: ويحكم ! دعوه لا تقتلوه. فأحجم عنه الناس، وتقدم إليه حميد بن قحطبة فحز رأسه وذهب به إلى عيسى بن موسى فوضعه بين يديه. وكان حميد قد حلف أن يقتله متى رآه، فما أدركه إلا كذلك ولو كان على حاله وقوته لمات استطاعه حميد ولا غيره من الجيش. وكان مقتل محمد بن عبد الله بن حسن عند أحجار الزيت يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة. وقال عيسى بن موسى لأصحابه حين وضع رأسه بين يديه: ما تقولون فيه ؟ فنال منه أقوام وتكلموا فيه، فقال رجل: كذبتم والله ! لقد كان صواماً قواماً، ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصى المسلمين فقتلناه على ذلك. فسكتوا حينئذ. وأما سيفه ذو الفقار فإنه صار إلى بني العباس يتوارثونه حتى جربه بعضهم فضرب به كلباً فانقطع. ذكره ابن جرير وغيره. وقد بلغ المنصور في غبون هذا الأمر أن محمداً فرَّ من الحرب فقال: هذا لا يكون، فإنا أهل بيت لا نفرّ. وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن راشد، حدثني أبو الحجاج، قال: إني لقائم على رأس المنصور وهو يسألني عن مخرج محمد، إذ بلغه أن عيسى بن موسى قد انهزم وكان متكئاً فجلس فضرب بقضيب معه مصلاه وقال: كلا ! وأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء؟ ما أنى لذلك بعد ! وبعث عيسى بن موسى بالبشارة إلى المنصور مع القاسم بن حسن، وبالرأس مع ابن أبي الكرام، وأمر بدفن الجثة فدفن بالبقيع، وأمر بأصحابه الذين قتلوا معه فصلبوا صفين ظاهر المدينة ثلاثة أيام ثم طرحوه على مقبرة اليهود عند سلع. ثم نقلوا إلى خندق هناك. وأخذ أموال بني حسن كلها فسوغها له المنصور، ويقال: إنه ردها بعد ذلك إليهم، حكاه ابن جرير. ونودي في أهل المدينة بالأمان فأصبح الناس في أسواقهم، وترفع عيسى بن موسى في الجيش إلى الجرف من مطر أصاب الناس يوم قتل محمد، وجعل ينتاب المسجد من الجرف، وأقام بالمدينة إلى اليوم التاسع عشر من رمضان، ثم خرج منها قاصداً مكة وكان بها الحسن بن معاوية من جهة محمد، وكان محمد قد كتب إليه يقدم عليه، فلما خرج من مكة وكان ببعض الطريق تلقته الأخبار بقتل محمد، فاستمر فاراً إلى البصرة إلى أخي محمد إبراهيم بن عبد الله، الذي كان قد خرج بها ثم قتل بعد أخيه في هذه السنة على ما سنذكره. ولما جيء المنصور برأس محمد بن عبد الله بن حسن فوضع بين يديه أمر به فطيف به في طبق أبيض، ثم طيف به في الأقاليم بعد ذلك، ثم شرع المنصور في استدعاء من خرج مع محمد من أشراف أهل المدينة، فمنهم من قتله، ومنهم من ضربه ضرباً مبرحاً، ومنهم من عفا عنه. ولما توجه عيسى إلى مكة استناب على المدينة كثير بن حصين، فاستمر بها شهراً حتى بعث المنصور على نيابتها عبد الله بن الربيع، فعاث جنده في المدينة فصاروا إذا اشتروا من الناس شيئاً لا يعطونهم ثمنه، وإن طولبوا بذاك ضربوا المطالب وخوفوه بالقتل، فثار عليهم طائفة من السودان واجتمعوا ونفخوا في بوق لهم، فاجتمع على صوته كل أسود في المدينة، وحملوا عليهم حملة واحدة وهم ذاهبون إلى الجمعة، لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة. (ج/ص: 10/97) وقيل: لخمس بقين من شوال منها، فقتلوا من الجند طائفة كثيرة بالمزاريق وغيرها، وهرب الأمير عبد الله بن ربيع وترك صلاة الجمعة. وكان رؤوس السودان: وثيق، ويعقل، ورمقة، وحديا، وعنقود، ومسعر، وأبو النار. فلما رجع عبد الله بن الربيع ركب في جنوده والتقى مع السودان فهزموه أيضاً فلحقوه بالبقيع، فألقى لهم رداءه يشغلهم فيه حتى نجا بنفسه ومن اتبعه، فلحق ببطن نخل على ليلتين من المدينة، ووقع السودان على طعام للمنصور كان مخزوناً في دار مروان قد قدم به في البحر فنهبوه ونهبوا ما للجند الذين بالمدينة من دقيق وسويق وغيره، وباعوا ذلك بأرخص ثمن. وذهب الخبر إلى المنصور بما كان من أمر السودان، وخاف أهل المدينة من معرة ذلك، فاجتمعوا وخطبهم ابن أبي سبرة - وكان مسجوناً - فصعد المنبر وفي رجليه القيود، فحثهم على السمع والطاعة للمنصور، وخوفهم شر ما صنعه مواليهم، فاتفق رأيهم على أن يكفوا مواليهم ويفرقوهم ويذهبوا إلى أميرهم فيردوه إلى عمله، ففعلوا ذلك، فسكن الأمر، وهدأ الناس وانطفأت الشرور، ورجع عبد الله بن الربيع إلى المدينة فقطع يد وثيق وأبي النار ويعقل ومسعر. ذكر خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن بالبصرة كان إبراهيم قد هرب إلى البصرة فنزل في بني ضبيعة من أهل البصرة، في دار الحارث بن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكان قدومه إليها بعد أن طاف بلاداً كثيرةً جداً، وجرت عليه وعلى أخيه خطوبٌ شديدةٌ هائلةٌ، وانعقد أسباب هلاكهما في أوقاتٍ متعددةٍ، ثم كان آخر ما استقر أمره بالبصرة في سنة ثلاث وأربعين ومائة، بعد منصرف الحجيج. وقيل: إن قدومه إليها كان في مستهل رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، بعثه أخوه إليها بعد ظهوره بالمدينة. قاله الواقدي. قال: وكان يدعو في السر إلى أخيه، فلما قتل أخوه أظهر الدعوة إلى نفسه في شوال من هذه السنة، والمشهور أنه قدمها في حياة أخيه ودعا لنفسه كما تقدم، والله أعلم. ولما قدم البصرة نزل عند يحيى بن زياد بن حسان النبطي، فاختفى عنده هذه المدة كلها، حتى ظهر في هذه السنة في دار أبي فروة، وكان أول من بايعه: نميلة بن مرة، وعبد الله بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمر بن سلمة الهجيمي، وعبيد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي. وندبوا الناس إليه فاستجاب له خلقٌ كثيرٌ فتحول إلى دار أبي مروان في وسط البصرة، واستفحل أمره، وبايعه فئام من الناس، وتفاقم الخطب به، وبلغ خبره إلى المنصور فازداد غماً إلى غمه بأخيه محمد، وذلك لأنه ظهر قبل مقتل أخيه وإنما كان سبب تعجيله الظهور كتاب أخيه إليه فامتثل أمره ودعا إلى نفسه، فانتظم أمره بالبصرة. (ج/ص: 10/98) وكان نائبها من جهة المنصور سفيان بن معاوية وكان ممالئاً لإبراهيم هذا في الباطن، ويبلغه أخباره فلا يكترث بها، ويكذب من أخبره ويود أن يتضح أمر إبراهيم، وقد أمده المنصور بأميرين من أهل خراسان معهما ألفا فارس، وراجل، فأنزلهما عنده ليتقوى بهما على محاربة إبراهيم، وتحول المنصور من بغداد - وكان قد شرع في عمارتها - إلى الكوفة، وجعل كلما اتهم رجلاً من أهل الكوفة في أمر إبراهيم بعث إليه يقتله في الليل في منزله، وكان الفرافصة العجلي قد همَّ بالوثوب بالكوفة فلم يمكنه ذلك لمكان المنصور بها، وجعل الناس يقصدون البصرة من كل فج لمبايعة إبراهيم، ويفدون إليها جماعات وفرادى، وجعل المنصور يرصد لهم المسالح فيقتلونهم في الطريق ويأتونه برؤوسهم فيصلبها بالكوفة ليتعظ بها الناس. وأرسل المنصور إلى حرب الراوندي - وكان مرابطاً بالجزيرة في ألفي فارس لقتال الخوارج - يستدعيه إليه إلى الكوفة، فأقبل بمن معه فاجتاز ببلدة بها أنصار لإبراهيم فقالوا له: لا ندعك تجتاز، لأن المنصور إنما دعاك لقتال إبراهيم. فقال: ويحكم ! دعوني. فأبوا فقاتلهم فقتل منهم خمسمائة وأرسل برؤوسهم إلى المنصور. فقال: هذا أول الفتح. ولما كانت ليلة الاثنين مستهل رمضان من هذه السنة، خرج إبراهيم في الليل إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر فارساً، وقدم في هذه الليلة أبو حماد الأبرص في ألفي فارس مداداً لسفيان بن معاوية، فأنزلهم الأمير في القصر، ومال إبراهيم وأصحابه على دواب أولئك الجيش وأسلحتهم فأخذوها جميعاً، فتقووا بها، فكان هذا أول ما أصاب. وما أصبح الصباح إلا وقد استظهر جداً، فصلى بالناس صلاة الصبح في المسجد الجامع، والتف الخلائق عليه ما بين ناظر وناصر، وتحصن سفيان بن معاوية نائب الخليفة بقصر الإمارة وحبس عنده الجنود فحاصرهم إبراهيم، فطلب سفيان بن معاوية من إبراهيم الأمان فأعطاه الأمان، ودخل إبراهيم قصر الإمارة فبسطت له حصير ليجلس عليها في مقدم إيوان القصر، فهبت الريح فقلبت الحصير ظهراً لبطن، فتطير الناس بذلك. فقال إبراهيم: إنا لا نتطير. وجلس على ظهر الحصير، وأمر بحبس سفيان بن معاوية مقيداً وأراد بذلك براءة ساحته عند المنصور، واستحوذ على ما كان في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف، وقيل: ألفا ألف. فقوي بذلك جداً. وكان في البصرة جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي، وهما ابنا عم الخليفة المنصور، فركبا في ستمائة فارس إليه فهزمهما، وأركب إبراهيم المضاء بن القاسم في ثمانية عشر فارساً وثلاثين راجلاً، فهزم ستمائة فارس كانت لهما، وأمن من بقي منهم. وبعث إبراهيم إلى أهل الأهواز فبايعوه وأطاعوه، وأرسل إلى نائبها مائتي فارس عليهم المغيرة فخرج إليه محمد بن الحصين نائب البلاد في أربعة آلاف فارس فهزمه المغيرة واستحوذ على البلاد. وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخذها، وكذلك واسط والمدائن والسواد، واستفحل أمره جداً، ولكن لما جاءه نعي أخيه محمد انكسر جداً، وصلى بالناس يوم العيد وهو مكسور. قال بعضهم: والله لقد رأيت الموت في وجهه، وهو يخطب الناس فنعى إلى الناس أخاه محمداً، فازداد الناس حنقاً على المنصور وأصبح فعسكر بالناس، واستناب على البصرة نميلة وخلف ابنه حسناً معه. (ج/ص: 10/99) ولما بلغ المنصور خبره تحير في أمره وجعل يتأسف على ما فرق من جنده في الممالك، وكان قد بعث مع ابنه المهدي ثلاثين ألفاً إلى الري، وبعث مع محمد بن الأشعث إلى إفريقية أربعين ألفاً والباقون مع عيسى بن موسى بالحجاز، ولم يبق مع المنصور سوى ألفي فارس. وكان يأمر بالنيران الكثيرة فتوقد ليلاً، فيحسب الناظر إليها أن ثمَّ جنداً كثيراً. ثم كتب المنصور إلى عيسى بن موسى: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل من فورك ودع كل ما أنت فيه. فلم ينشب أن أقبل إليه فقال له: اذهب إلى إبراهيم بالبصرة ولا يهولنك كثرة من معه، فإنهم جملا بني هاشم المقتولان جميعاً، فابسط يدك وثق بما عندك وستذكر ما أقول لك. فكان الأمر كما قال المنصور. وكتب المنصور إلى ابنه المهدي أن يوجه خازم بن خزيمة في أربعة آلاف إلى الأهواز، فذهب إليها فأخرج منها نائب إبراهيم - وهو المغيرة - وأباحها ثلاثة أيام، ورجع المغيرة إلى البصرة، وكذلك بعث إلى كل كورة من هذه الكور التي نقضت بيعته جنداً يردون أهلها إلى الطاعة. قالوا: ولزم المنصور موضع مصلاه فلا يبرح منه ليلاً ونهاراً في ثيابٍ بذلةٍ قد اتسخت، فلم يزل مقيماً هناك بضعاً وخمسين يوماً حتى فتح الله عليه. وقد قيل له في غبون ذلك: إن نساءك قد خبثت نفسهن لغيبتك عنهن. فانتهر القائل وقال: ويحك ! ليست هذه أيام نساء، حتى أرى رأس إبراهيم بين يدي، أو يحمل رأسي إليه. وقال بعضهم: دخلت على المنصور وهو مهموم من كثرة ما وقع من الشرور، وهو لا يستطيع أن يتابع الكلام من كثرة همه، وما تفتق عليه من الفتوق والخروق، وهو مع ذلك قد أعد لكل أمر ما يسد خلله به، وقد خرجت عن يده البصرة والأهواز وأرض فارس والمدائن وأرض السواد، وفي الكوفة عنده مائة ألف مغمدة سيوفها تنتظر به صيحة واحدة، فيثبون مع إبراهيم، وهو مع ذلك يعرك النوائب ويمرسها ولم تقعد به نفسه وهو كما قال الشاعر: نفس عصام سوّدت عصاما * وعلمته الكر والإقداما فصيرته ملكاً هماماً * وأقبل إبراهيم بعساكر من البصرة إلى الكوفة في مائة ألف مقاتل، فأرسل إليه المنصور عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفاً، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف. وجاء إبراهيم فنزل في باخمرى في جحافل عظيمة، فقال له بعض الأمراء: إنك قد اقتربت من المنصور فلو أنك سرت إليه بطائفة من جيشك لأخذت بقفاه فإنه ليس عنده من الجيوش ما يردون عنه. وقال آخرون: إن الأولى أن نناجز هؤلاء الذين بإزائنا، ثم هو في قبضتنا. فثناهم ذلك عن الرأي الأول. ولو فعله لتم لهم الأمر. (ج/ص: 10/100) ثم قال بعضهم: خندق حول الجيش. وقال آخرون: إن هذا الجيش لا يحتاج إلى خندق حوله، فترك ذلك. ثم أشار بعضهم أن يبيت جيش عيسى بن موسى فقال إبراهيم: أنا لا أرى ذلك، فتركه. ثم أشار آخرون بأن يجعل جيشه كراديس فإن غلب كردوس ثبت الآخر. وقال آخرون: الأولى أن نقاتل صفوفاً لقوله تعالى: والأمر لله وما شاء فعل ولو ساروا إلى الكوفة، وبيتوا الجيش أو جعل جيشه كراديس لتم له الأمر مع تقدير الله تعالى. وأقبل الجيشان فتصافوا في باخمرى وهي على ستة عشر فرسخاً من الكوفة، فاقتتلوا بها قتالاً شديداً فانهزم حميد بن قحطبة بمن معه من المقدمة، فجعل عيسى يناشدهم الله في الرجوع والكرة فلا يلوي عليه أحد، وثبت عيسى بن موسى في مائة رجل من أهله، فقيل له: لو تنحيت من مكانك هذا لئلا يحطمك جيش إبراهيم. فقال: والله لا أزول منه حتى يفتح الله لي، أو أقتل هاهنا. وكان المنصور قد تقدم إليه بما أخبره بعض المنجمين أن الناس يكون لهم جولة عن عيسى بن موسى ثم يقومون إليه وتكون العاقبة له، فاستمر المنهزمون ذاهبين إلى نهر بين جبلين فلم يمكنهم خوضه فكروا راجعين بأجمعهم، وكان أول راجع حميد بن قحطبة الذي كان أول من انهزم. ثم اجتلدوا هم وأصحاب إبراهيم فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل من كلا الفريقين خلقٌ كثيرٌ، ثم انهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في خمسمائة. وقيل: في أربعمائة. وقيل: في تسعين رجلاً. واستظهر عيسى بن موسى وأصحابه، وقتل إبراهيم في جملة من قتل واختلط رأسه مع رؤوس أصحابه، فجعل حميد يأتي بالرؤوس إلى عيسى بن موسى حتى عرفوا رأس إبراهيم فبعثوه مع البشير إلى المنصور، وكان نيبخت المنجم قد دخل على المنصور قبل مجيء الرأس فأخبره أن إبراهيم مقتول فلم يصدقه، فقال: يا أمير المؤمنين ! إن لم تصدقني فاحبسني فإن لم يكن الأمر كما ذكرت فاقتلني. فبينا هو عنده إذ جاء البشير بهزيمة جيش إبراهيم، ولما جيء بالرأس تمثل المنصور ببيت معقر بن أوس بن حمار البارقي: فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر وقيل: إن المنصور لما رأى الرأس بكى حتى جعلت دموعه تسقط على الرأس، وقال: والله لقد كنت لهذا كارهاً، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك. ثم أمر بالرأس فنصب بالسوق. وأقطع نيبخست المنجم الكذاب ألفي جريب، فهذا المنجم إن كان قد أصاب في قضية واحدة فقد أخطأ في أشياء كثيرة، فهم كذبة كفرة وقد كان المنصور في ضلال مع منجمه هذا، وقد ورث الملوك اعتقاد أقوال المنجمين وذلك ضلال لا يجوز. وذكر صالح مولى المنصور قال: لما جيء برأس إبراهيم جلس المنصور مجلساً عاماً وجعل الناس يدخلون عليه فيهنئونه وينالون من إبراهيم ويقبحون الكلام فيه ابتغاء مرضاة المنصور، والمنصور ساكت متغير اللون لا يتكلم، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني فوقف فسلم ثم قال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط من حقك. (ج/ص: 10/101) قال: فاصفر لون المنصور وأقبل عليه وقال له: يا أبا خالد ! مرحباً وأهلاً ههنا فاجلس. فعلم الناس أن ذلك وقع منه موقعاً جيداً. فجعل كل من جاء يقول كما قال جعفر بن حنظلة. قال أبو نعيم الفضل بن دكين: كان مقتل إبراهيم في يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة من هذه السنة. ذكر من توفي من الأعيان: فمن أعيان أهل البيت عبد الله بن حسن وابناه: محمد وإبراهيم، وأخوه حسن بن حسن، وأخوه لأمه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، الملقب: بالديباج. وقد تقدمت ترجمته. وأما أخوه: عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي، فتابعي. روى عن: أبيه، وأمه فاطمة بنت الحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو صاحبي جليل وغيرهم. وروى عنه جماعة، منهم: سفيان الثوري، والدراوردي، ومالك، وكان معظماً عند العلماء، وكان عابداً كبير القدر. قال يحيى بن معين: كان ثقة صدوقاً، وفد على عمر بن عبد العزيز فأكرمه، ووفد على السفاح فعظمه وأعطاه ألف ألف درهم، فلما ولي المنصور عامله بعكس ذلك، وكذلك أولاده وأهله، وقد مضوا جميعاً والتقوا عند الله عز وجل، وأخذه المنصور وأهل بيته مقيدين مغلولين مهانين من المدينة إلى الهاشمية، فأودعهم السجن الضيق، كما قدمنا، فمات أكثرهم فيه، فكان عبد الله بن حسن هذا أول من مات فيه بعد خروج ولده محمد بالمدينة. وقد قيل: إنه قتل في السجن عمداً. وكان عمره يوم مات خمساً وسبعين سنة، وصلى عليه أخوه لأمه الحسن بن الحسن بن علي. ثم مات بعده أخوه حسن فصلى عليه أخوه لأمه محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان. ثم قتل بعدهما وحمل رأسه إلى خراسان كما تقدم. وأما ابنه: محمد الذي خرج بالمدينة، فروى عن: أبيه، ونافع، وعن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، في كيفية الهوي إلى السجود. وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه. وقد ذكر أن أمه حملت به أربع سنين، وكان طويلاً سميناً أسمر ضخماً، ذا همة سامية، وسطوة عالية، وشجاعة باهرة. قتل بالمدينة في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، وله خمس وأربعون سنة. وقد حملوا برأسه إلى المنصور، وطيف به في الأقاليم. (ج/ص: 10/102) وأما أخوه إبراهيم فكان ظهوره بالبصرة بعد ظهور أخيه بالمدينة وكان مقتله بعد مقتل أخيه في ذي الحجة من هذه السنة، وليس له شيء في الكتب الستة. وحكى أبو داود السجستاني، عن أبي عوانة، أنه قال: كان إبراهيم وأخوه محمد خارجين. قال داود: ليس كما قال، هذا رأي الزيدية. قلت: وقد حكي عن جماعة من العلماء والأئمة أنهم مالوا إلى ظهورهما. وفيها توفي من المشاهير والأعيان: الأجلح بن عبد الله، وإسماعيل بن أبي خالد في قول، وحبيب بن الشهيد، وعبد الملك بن أبي سليمان، وعمرو مولى عفرة، ويحيى بن الحارث الذماري، ويحيى بن سعيد أبو حيان التيمي، ورؤبة بن العجاج، والعجاج لقب، واسمه: أبو الشعثاء عبد الله بن رؤبة، وأبو محمد التميمي البصري، الراجز بن الراجز، ولكل منهما ديوان رجز، وكل منهما بارع في فنه لا يجاري ولا يماري، عالم باللغة. وعبد الله بن المقفع الكاتب المفوه، أسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور، وكتب له، وله رسائل وألفاظ صحيحة، وكان متهماً بالزندقة، وهو الذي صنف كتاب كليلة ودمنة، ويقال: بل هو الذي عربها من المجوسية إلى العربية. قال المهدي: ما وجد كتاب زندقة إلا وأصله من: ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد. قالوا: ونسي الجاحظ وهو رابعهم. وكان مع هذا فاضلاً بارعاً فصيحاً. قال الأصمعي: قيل لابن المقفع: من أدبك ؟ قال: نفسي، إذا رأيت من غيري قبيحاً أبيته، وإذا رأيت حسناً أتيته. ومن كلامه: شربت من الخطب رياً، ولم أضبط لها روياً، فغاضت ثم فاضت، فلا هي نظاماً، ولا نسيت غيرها كلاماً. وكان قتل ابن المقفع على يد سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة نائب البصرة، وذلك أنه كان يعبث به ويسب أمه، وإنما كان يسميه: ابن المعلم، وكان كبير الأنف، وكان إذا دخل عليه يقول: السلام عليكما - على سبيل التهكم -. وقال لسفيان بن معاوية مرة: ما ندمت على سكوت قط. فقال: صدقت، الخرس لك خير من كلامك. ثم اتفق أن المنصور غضب على ابن المقفع فكتب إلى نائبه سفيان بن معاوية هذا أن يقتله، فأخذه فأحمى له تنوراً وجعل يقطعه إرباً إرباً ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله، وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، وقيل غير ذلك في صفة قتله. قال ابن خلكان: ومنهم من يقول: إن ابن المقفع نسب إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالزنبيل بلا آذان، والصحيح أنه ابن المقفع وهو أبو دارويه كان الحجاج قد استعمله على الخراج فخان فعاقبه حتى تقفعت يداه، والله أعلم. وفيها: خرج الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة. وحج بالناس في هذه السنة نائب المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي. وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة مسلم بن قتيبة، وعلى مصر يزيد بن حاتم. (ج/ص: 10/103) فيها: تكامل بناء مدينة السلام ببغداد، وسكنها المنصور في صفر من هذه السنة، وكان مقيماً قبل ذلك بالهاشمية المتاخمة للكوفة، وكان قد شرع في بنائها في السنة الخارجة، وقيل: في سنة أربع وأربعين ومائة، فالله أعلم. وقد كان السبب الباعث له على بنائها أن الراوندية لما وثبوا عليه بالكوفة ووقاه الله شرهم، بقيت منهم بقية فخشي على جنده منهم، فخرج من الكوفة يرتاد لهم موضعاً لبناء مدينة، فسار في الأرض حتى بلغ الجزيرة، فلم ير موضعاً أحسن لوضع المدينة من موضع بغداد الذي هي فيه الآن، وذلك بأنه موضع يغدا إليه ويراح بخيرات ما حوله في البر والبحر، وهو محصن بدجلة والفرات من ههنا وههنا، لا يقدر أحد أن يتوصل إلى موضع الخليفة إلا على جسر. وقد بات به المنصور قبل بنائه ليالي فرأى الرياح تهب به ليلاً ونهاراً من غير انجعار ولا غبار، ورأى طيب تلك البقعة وطيب هوائها، وقد كان في موضعها قرى وديور لعباد النصارى وغيرهم - ذكر ذلك مفصلاً بأسمائه وتعداده أبو جعفر ابن جرير - فحينئذ أمر المنصور باختطاطها فرسموها له بالرماد فمشى في طرقها ومسالكها فأعجبه ذلك، ثم سلم كل ربع منها لأمير يقوم على بنائه، وأحضر من كل البلاد فعالاً وصناعاً ومهندسين، فاجتمع عنده ألوف منهم، ثم كان هو أول من وضع لبنة فيها بيده، وقال: بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله. وأمر ببنائها مدورة سمك سورها من أسفله خمسون ذراعاً، ومن أعلاه عشرون ذراعاً، وجعل لها ثمانية أبواب في السور البراني، ومثلها في الجواني، وليس كل واحد تجاه الآخر، ولكن جعله أزور عن الذي يليه، ولهذا سميت بغداد الزوراء، لازورار أبوابها بعضها عن بعض، وقيل: سميت بذلك لانحراف دجلة عندها. وبنى قصر الإمارة في وسط البلد ليكون الناس منه على حد سواء، واختط المسجد الجامع إلى جانب القصر، وكان الذي وضع قبلته الحجاج بن أرطأة. وقال ابن جرير: ويقال: إن في قبلته انحرافاً يحتاج المصلي فيه أن ينحرف إلى ناحية باب البصرة، وذكر أن مسجد الرصافة أقرب إلى الصواب منه لأنه بني قبل القصر، وجامع المدينة بني على القصر، فاختلت بسبب ذلك. وذكر ابن جرير، عن سليمان بن مجالد، أن المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء بها فأبى وامتنع فحلف المنصور أن يتولى له، وحلف أبو حنيفة أن لا يتولى له، فولاه القيام بأمر المدينة وضرب اللبن، وأخذ الرجال بالعمل، فتولى ذلك حتى فرغوا من استتمام حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة أربع وأربعين ومائة. قال ابن جرير: وذكر عن الهيثم بن عدي: أن المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له، فأخبر بذلك أبو حنيفة فدعاه بقصبة فعد اللبن ليبر بذلك يمين أبي جعفر، ومات أبو حنيفة ببغداد بعد ذلك. (ج/ص: 10/104) وذكر أن خالد بن برمك هو الذي أشار على المنصور ببنائها، وأنه كان مستحثاً فيها للصناع، وقد شاور المنصور الأمراء في نقل القصر الأبيض من المدائن إلى بغداد لأجل قصر الإمارة بها، فقالوا: لا تفعل فإنه آية في العالم، وفيه مصلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فخالفهم ونقل منه شيئاً كثيراً، فلم يف ما تحصل منه بأجرة ما يصرف في حمله فتركه، ونقل أبواب قصر واسط إلى أبواب قصر الإمارة ببغداد. وقد كان الحجاج نقل حجارته من مدينة هناك كانت من بناء سليمان بن داود، وكانت الجن قد عملت تلك الأبواب، وهي حجارة هائلة. وقد كانت الأسواق وضجيجها تسمع من قصر الإمارة، فكانت أصوات الباعة وهوسات الأسواق تسمع منه، فعاب ذلك بعض بطارقة النصارى ممن قدم في بعض الرسائل من الروم، فأمر المنصور بنقل الأسواق من هناك إلى موضع آخر، وأمر بتوسعة الطرقات أربعين ذراعاً في أربعين ذراعاً، ومن بنى في شيء من ذلك هدم. قال ابن جرير: وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال: وجدت في خزائن المنصور في الكتب أنه أنفق على بناء مدينة السلام ومسجدها الجامع وقصر الذهب بها والأسواق وغير ذلك، أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وكان أجرة الأستاذ من البنائين كل يوم قيراط فضة، وأجرة الصانع من الحبتين إلى الثلاثة. قال الخطيب البغدادي: وقد رأيت ذلك في بعض الكتب، وحكي عن بعضهم أنه قال: أنفق عليه ثمانية عشر ألف ألف، فالله أعلم. وذكر ابن جرير أن المنصور ناقص أحد المهندسين الذي بنى له بيتاً حسناً في قصر الإمارة فنقصه درهماً عما ساومه، وأنه حاسب بعض المستحثين على الذي كان عنده ففضل عنده خمسة عشر درهماً فحبسه حتى جاء بها وأحضرها وكان شحيحاً. قال الخطيب: وبناها مدورة، ولا يعرف في أقطار الأرض مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم. ثم ذكر عن بعض المنجمين قال: قال لي المنصور لما فرغ من بناء بغداد: خذ الطالع لها، فنظرت في طالعها - وكان المشتري في القوس - فأخبرته بما تدل عليه النجوم، من طول زمانها، وكثرة عمارتها، وانصباب الدنيا إليها وفقر الناس إلى ما فيها. قال: ثم قلت له: وأبشرك يا أمير المؤمنين أنه لا يموت فيها أحد من الخلفاء أبداً. قال: فرأيته يبتسم ثم قال: الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وذكر عن بعض الشعراء أنه قال في ذلك شعراً منه: (ج/ص: 10/105) قضى ربها أن لا يموت خليفة * بها إنه ما شاء في خلقه يقضي وقد قرره على هذا الخطأ الخطيب وسلم ذلك ولم ينقضه بشيء، بل قرره مع اطلاعه ومعرفته. قال: وزعم بعض الناس أن الأمين قتل بدرب الأنبار منها، فذكرت ذلك للقاضي أبي القاسم علي بن حسن التنوخي فقال: محمد الأمين لم يقتل بالمدينة، وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه فقبض عليه في وسط دجلة وقتل هناك. ذكر ذلك الصولي وغيره. وذكر عن بعض مشايخ بغداد أنه قال: اتساع بغداد مائة وثلاثون جريباً، وذلك بقدر ميلين في ميلين. قال الإمام أحمد: بغداد من الصراة إلى باب التبن. وذكر الخطيب: أن بين كل بابين من أبوابها الثمانية ميلاً. وقيل: أقل من ذلك. وذكر الخطيب صفة قصر الإمارة وأن فيه القبة الخضراء طولها ثمانون ذراعاً، على رأسها تمثال فرس عليه فارس في يده رمح يدور به فأي جهة استقبلها واستمر مستقبلها، علم السلطان أن في تلك الجهة قد وقع حدث، فلم يلبث أن يأتي الخليفة خبره. وهذه القبة وهي على مجلس في صدر إيوان المحكمة وطوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً. وقد سقطت هذه القبة في ليلة برد ومطر ورعد وبرق، ليلة الثلاثاء لسبع خلون من شهر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وذكر الخطيب البغدادي أنه كان يباع في بغداد في أيام المنصور الكبش الغنم بدرهم والحمل بأربعة دوانق، وينادى على لحم الغنم كل ستين رطلاً بدرهم، ولحم البقر كل تسعين رطلاً بدرهم، والتمر كل ستين رطلاً بدرهم، والزيت ستة عشر رطلاً بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم. ولهذا الأمن والرخص كثر ساكنوها وعظم أهلوها وكثر الدارج في أسواقها وأزقتها، حتى كان المار لا يستطيع أن يجتاز في أسواقها لكثرة زحام أهلها. قال بعض الأمراء وقد رجع من السوق: طال والله ما طردت خلف الأرانب في هذا المكان. وذكر الخطيب: أن المنصور جلس يوماً في قصره، فسمع ضجة عظيمة، ثم أخرى ثم أخرى فقال للربيع الحاجب: ما هذا ؟ فكشف فإذا بقرة قد نفرت من جازرها هاربة في الأسواق. فقال الرومي: يا أمير المؤمنين ! إنك بنيت بناء لم يبنه أحد قبلك، وفيه ثلاثة عيوب: بعده من الماء، وقرب الأسواق منه، وليس عنده خضره، والعين خضرة تحب الخضرة. (ج/ص: 10/106) فلم يرفع بها المنصور رأساً ثم أمر بتغيير ذلك، ثم بعد ذلك ساق إليها الماء وبنى عندها البساتين، وحول الأسواق من ثم إلى الكرخ. قال يعقوب بن سفيان: كمل بناء بغداد في سنة ست وأربعين ومائة، وفي سنة سبع وخمسين حول الأسواق إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول، وأمر بتوسعة الأسواق أربعين ألفاً، وبعد شهرين من ذلك شرع في بناء قصره المسمى: بالخلد، فكمل سنة ثمان وخمسين ومائة. وجعل أمر ذلك إلى رجل يقال له: الوضاح، وبنى للعامة جامعاً للصلاة والجمعة لئلا يدخلوا إلى جامع المنصور، فأما دار الخلافة التي كانت ببغداد بعد ذلك فإنها كانت للحسن بن سهل، فانتقلت من بعده إلى بوران زوجة المأمون، فطلبها منها المعتضد - وقيل: المعتمد - فأنعمت له بها، ثم استنظرته أياماً حتى تنتقل منها فأنظرها. فشرعت في تلك الأيام في ترميمها وتبييضها وتحسينها، ثم فرشتها بأنواع الفرش والبسط، وعلقت فيها أنواع الستور، وأرصدت فيها ما ينبغي للخلافة من الجواري والخدم، وألبستهم أنواع الملابس، وجعلت في الخزائن ما ينبغي من أنواع الأطعمة والمأكل، وجعلت في بعض بيوتها من أنواع الأموال والذخائر، ثم أرسلت بمفاتيحها إليه، ثم دخلها فوجد فيها ما أرصدته بها، فهاله ذلك واستعظمه جداً، وكان أول خليفة سكنها وبنى عليها سوراً. ذكره الخطيب. وأما التاج فبناه المكتفي على دجلة، وحوله القباب والمجالس والميدان والثريا وحير الوحوش. وذكر الخطيب صفة دار الشجرة التي كانت في زمن المقتدر بالله، وما فيها من الفرش والستور والخدم والمماليك والحشمة الباهرة، والدنيا الظاهرة، وأنها كان بها إحدى عشر ألف طواشي، وسبعمائة حاجب. وأما المماليك فألوف لا يحصون كثرة، وسيأتي ذكر ذلك مفصلاً في أيامهم ودولتهم التي ذهبت كأنها أحلام نوم، بعد سنة ثلثمائة. وذكر الخطيب دار الملك التي بالمخرم، وذكر الجوامع التي تقام فيها الجمعات، وذكر الأنهار والجسور التي بها، وما كان في ذلك في زمن المنصور، وما أحدث بعده إلى زمانه، وأنشد لبعض الشعراء في جسور بغداد التي على دجلة: يوم سرقنا العيش فيه خلسة * في مجلس بفناء دجلة مفرد رق الهواء برقة وقدامة * فغدوت رقاً للزمان المسعد فكأن دجلة طيلسان أبيض * والجسر فيها كالطراز الأسود (ج/ص: 10/107) وقال آخر: يا حبذا جسر على متن دجلة * بإتقان تأسيس وحسن ورونق جمال وحسن للعراق ونزهة * وسلوة من أضناه فرط التشوق تراه إذا ما جئته متأملاً * كسطر عبير خط في وسط مهرق أو العاج فيه الأبنوس مرقش * مثال فيول تحتها أرض زئبق وذكر الصولي، قال: ذكر أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد أن ذرع بغداد من الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب، وأن الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريباً، وأن عدة حماماتها ستون ألف حمام، وأقل ما في كل حمام منها خمسة نفر حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء، وأن بإزاء كل حمام خمسة مساجد، فذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وأقل ما يكون في كل مسجد خمسة نفر - يعني: إماماً وقيماً ومأذوناً ومأمومين - ثم تناقصت بعد ذلك، ثم دثرت بعد ذلك حتى صارت كأنها خربة صورة ومعنى. على ما سيأتي بيانه في موضعه. وقال الحافظ أبو بكر البغدادي: لم يكن لبغداد نظير في الدنيا في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتمييز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ودروبها ومنازلها وشوارعها ومساجدها وحماماتها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وأكثر ما كانت عمارة وأهلاً في أيام الرشيد، ثم ذكر تناقص أحوالها وهلم جرا إلى زمانه. قلت: وكذا من بعده إلى زماننا هذا، ولا سيما في أيام هولاكو بن تولى بن جنكز بن خان التركي الذي ووضع معالمها، وقتل خليفتها وعالمها، وخرب دورها، وهدم قصورها، وأباد الخواص والعوام من أهلها في ذلك العام، وأخذ الأموال والحواصل، ونهب الذراري والأصائل، وأورث بها حزناً يعدد به في المبكرات والأصائل، وصيرها في الأقاليم، وعبرة لكل معتبر عليم، وتذكرة لكل ذي عقل مستقيم، وبدلت بعد تلاوة القرآن بالنغمات والألحان، وإنشاد الأشعار، وكان، وكان. وبعد سماع الأحاديث النبوية بدرس الفلسفة اليونانية، والمناهج الكلامية والتأويلات القرمطية، وبعد العلماء بالأطباء، وبعد الخليفة العباسي بشر الولاة من الأناسي، وبعد الرياسة والنباهة بالخساسة والسفاهة، وبعد الطلبة المشتغلين بالظلمة والعيارين، وبعد العلم بالفقه والحديث وتعبير الرؤيا، بالموشح ودوبيت ومواليا. وما أصابهم ذلك إلا ببعض ذنوبهم: والتحول منها في هذه الأزمان لكثرة ما فيها من المنكرات الحسية والمعنوية، وأكل الحشيشة، والانتقال عنها إلى بلاد الشام الذي تكفل الله بأهلها أفضل وأكمل وأجمل. وقد روى الأمام أحمد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، وشرار أهل الشام إلى العراق)). (ج/ص: 10/108)
|